عبدالله النديم
اشتهر بحواراته الدرامية الثنائية التي تقترب في تكوينها الفني من «الديالوج»
رحم الله عبدالله النديم «المنكت» «المبكت» الذي وصفه كاتبنا الكبير بهاء طاهر في كتابه «العظيم» أبناء رفاعة بأنه «مؤسسة إعلامية كاملة» (الهلال 49) لكن النديم الذي رثاه جمال الدين الأفغاني بأنه «مصري عريق في مصريته» لم يكن مثل «سكويلر» بوق الدعاية لثورة الخنازير في «مزرعة الحيوانات» للكاتب الإنجليزي جورج ارويل، بل كان إعلامياً فذاً يسبق عصره بعصور.
ولد النديم في 1843 ومات في العاشر من أكتوبر عام 1896 بعد أن قاسى سنوات من أسر الغربة ومكابدات عشق الوطن والبعد عن محبوبته مصر، من منا لا يعشق مصر؟ ولكن من منا يعشق مصر مثلما عشقها عبدالله النديم؟!! لماذا ينفي عشاق هذا الوطن.. النديم، بيرم وغيرهما؟! يجيب النديم «أستاذ» التنكيت والتبكيت الذي كان يحرر الجرائد دون أن يذكر اسمه: أكتب العديد من الوقائع وأقيد اللطائف وأنكر على أهل البلاد وقوفهم تحت رجم الاستبداد.
لم يكن ينتمي إلى أسرة معروفة بالغنى والعز ولم يكن يملك من متاع الدنيا إلا الكفاف.. غير أن نسبه كان ينتهي إلى الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا ما كان يجلو عنه همه وينفس عنه كربته كلما أظلمت الدنيا، وضاقت في وجهه الأيام.
ولم يكن هذا النجار البسيط في فترة من فترات حياته، أو هذا الخباز الفقير في فترة أخرى من فترات حياته.. لم يكن يدري أن ابنه عبدالله النديم سيكون له حظ عظيم في تاريخ الإسلام وفي تاريخ الوطن العزيز، فقد أصبح فيما بعد بطلاً عظيماً من أبطال الإسلام، وخطيب الثورة العرابية التي قامت في وجه الظلم والطغيان.
وتعد سيرة حياة النديم من أعجب السير في تاريخ البشرية، فقد بدأ حياته فتى يتسكع في الطرقات ويختلط بالدهماء.. يستمع إلى السوقة وهم يتحدثون أو إلى الخاصة وهم يتناقشون.. ويغشى الموالد العامة حيناً ويزج بنفسه بين طائفة (الأدباتية) إن صح هذا التعبير حينا آخر ويقلدهم في حركاتهم.. ويحاكيهم في ندواتهم حتى انعكست تلك الصورة على نفسه وتراءت في حسه، وتجلت في شعوره وحديثه.
وترك عبدالله النديم هذه الفترة العاطلة من سني حياته ليتعلم فن الإشارات البرقية، غير أنه لم يطل السير في هذا المضمار، فاتصل بأحد أعيان المنصورة ففتح له متجراً يبيع فيه العصائب والمناديل، فاتصل بأحد أعيان المنصورة ففتح له متجراً يبيع فيه العصائب والمناديل، غير أن عبدالله النديم كان يبيع في هذا المتجر شيئاً ليس بالعصائب ولا المناديل وليس بنظير ما يبيعه التجار في مثل هذه المتاجر.. كان يبيع الحكمة والأدب، فكان يجتمع بمتجره نفر غفير من المثقفين يتجاذبون أطراف الحديث في الشعر والفن والأدب ويتناولون النقد في أسلوب لا يخلو من الصرامة والعنف.
ولم تلبث طبيعة النديم الأدبية أن طغت عليه، فلم يستطع عنها انصرافاً.. سافر إلى الاسكندرية حيث اشترك مع أديب إسحاق وسليم النقاش في تحرير صحيفتي (المحروسة) و(العصر الجديد) فكان أسلوبه من العوامل الفعالة في انتشار هاتين الجريدتين واتساع نفوذهما.
ضد الفساد
وكانت الجمعيات السرية في ذلك الوقت تتكون بكثرة في الخفاء للانقضاض على نظام الحكم الفاسد في تلك الفترة من التاريخ، فالتحق عبدالله النديم بجمعية سرية هي جمعية (مصر الفتاة)، وهي غير الجمعية التي يعرفها هذا الجيل.. وكانت تهدف إلى نشر التعليم وتنقد في عنف سياسة إسماعيل، وما زال عبدالله النديم بهذه الجمعية يبث آراءها في كل مكان، ويوزع أفكارها في كل بقعة، حتى أخرجها من السر إلى العلن، معتمداً على شخصيته القوية، وأعلن النديم وزملاؤه أغراض هذه الجمعية ومنها إنشاء مدرسة لتعليم الفقراء مجاناً ومنها بث الروح الوطنية، وإشعال الحركة القومية بين الشعبية حتى يظفروا بحقوقهم كاملة غير منقوصة.
ثم ظهرت بوادر الثورة العرابية فبرزت مواهب عبدالله النديم الخطابية بشكل واضح في كل ناد.. ويرتجل الكلام ارتجالاً ويتدفق كما يتدفق البحر.. في أسلوب يستنهض الهمم، ويثير العزائم، ومن بديهة كأنه يقرأ في كتاب، وكأنها تستوحي الغيب فليس بينها وبين الغيب حجاب.
بهر عبدالله النديم الناس بلسانه الذرب المنطبق.. وبيانه الساطع ففكر رجال الثورة العرابية في ضمه إلى صفوفهم فكان انضمامه إلى الثورة العرابية وقوداً لها، إذ زادت به ضراماً.. وزيتاً لها أصبحت به سراجاً وهاجاً.
كان صوت عبدالله النديم قوياً يجلجل في الآذان.. ويقرع.. الأسماع.. في نبرة. معبرة، وأداء بديع.. وكان عبدالله النديم حسن الإشارة، رابط الجأش، ساكن الجنان.. متماسك الأعصاب قوي الحجة.. دامغ الرأي. يلبس لكل حالة لبوسها. ويسوق العبارة القوية الجادة حيناً.. والملحة الطريفة والنادرة المضحكة حيناً آخر فتمثلت فيه سمات الخطيب المصقع الذي يحرك أزمة الأفئدة إلى هوى وكيفما يشاء.
ومن مقال (سلب الأملاك من الملاك) فقد كان الأقباط والمسلمون في مصر مهانين وسافر الخديو المعزول اسماعيل باشا على الباخرة «المحروسة» إلى نابولي ومعه ثلاثة عشر مليونا من الجنيهات من خزينة المالية المصرية التي تركها خاوية الوفاض دون أن يترك حتى الفتات لاصلاح الأحوال وتولى من بعده ابنه توفيق الذي كان يظن أن المصريين «عبيد احساناته» حتى تألفت مجموعة من نبهاء الأمة تنبعث أفكارها في صدور العامة تزعمها المناضل أحمد عرابي وكان نديم هو صوتها المعبر وكلمتها الحق.
مقاومة الاستعمار
استبسل النديم وشحذ كلمته في مقاومته الاستعمار الداخلي والخارجي الذي حاول «إلغاء عقل الأمة» (بهاء طاهر أبناء رفاعة، الهلال 57) وهبت روح جديدة بعث معها الشعب المصري من جديد حيث اشتدت الحاجة الى ثقافة جديدة للمجتمع المصري ونقلها الى مستوى الوعي الشعبي العام يحتاج الى جهد من نوع آخر يحتاج الى عبدالله النديم (بهاء طاهر أبناء رفاعة، الهلال 48).
وانتقل عبدالله النديم بخطاباته الى الميدان يحرض الجنود على القتال، كما انتقل اليه بصحيفة «الطائف» وهو اسم اقترحه عليه أحمد عرابي تيمنا بطائف الحجاز ومتفائلاً بانتشارها في البلاد بدلا من اسم الجريدة القديمة (التنكيت - والتبكيت) وسببه السخرية من عادات المصريين وأخلاقهم وتبكيتهم على التمسك بها والنزوع إليها.. وقد نقلت عن صحيفة الطائف أكثر صحف القاهرة أخبار الحرب وتفاصيلها ومقالات النديم وآرائه، وكذلك فصوله التي كان يكتبها في تاريخ إسماعيل وفي النقمة عليه والسخرية منه، كما قال في (سلب الأملاك من الملاك). كما ذكرت من قبل.
أصبح النديم هو لسان حال الثورة وكاتبها الأشهر قال عنه عرابي «صديقي الأعز الهمام صاحب الغيرة والعزم القوي» مذكرات الزعيم أحمد عرابي الهلال 48 لم يفارق نديم عرابي ولم يكف عن مخاطبة الجموع بما كرس له جهاده من دعوة لتوحيد صفوف المصريين وذكر مآثر «التحالف والتعاون والحرية المعتدلة وحب الوطن» (مذكرات الزعيم أحمد عرابي، الهلال 48 ص116).
وقد كان تعاون الطائف في هذه الحملة وفي الوقوف الى جانب العرابيين جريدة (المفيد) لمحررها حسن الشمسي الذي أبلى بلاءً عظيماً في ميدان الجهاد الوطني وإثارة الشعور العام ضد الإنجليز.
تميز النديم بوعي سياسي وخفة ظل وثقافة وضمير اجتماعي ورؤية مفعمة بإيمان نقي وسريرة مطمئنة تبوأ بها مكانة متميزة وسط رهط الأبطال الشعبيين الذين يعتز بهم الشعب المصري، واتبع الإعلامي القدير سياسة التنكيت والتبكيت والمزج بين عرض اللطائف والفظائع ليأخذ الشعب المصري في رحلته نحو التحضر وبناء ذاكرة تفاعلية تقوم على الاستفادة من دروس الماضي والتحليل والتعميم، لذلك افادته بعثته الى وجدان الشعب المصري في فهم تضاريسه النفسية والاجتماعية فأيقن أن سلاحه اللغوي الذي برع في استخدامه ذو حدين هما اللغة العربية الفصحى في القضايا السياسية والعامية المصرية في القضايا الاجتماعية ليتمكن بذلك من مخاطبة كل طبقات الشعب بلا استثناء.
اشتهر النديم بحواراته الدرامية الثنائية التي تقترب في تكوينها الفني من «الديولوج» وهو قالب مسرحي متكامل ومعترف به وان كانت - الحوارات - لم تعرض الى الآن على خشبة المسرح رغم إمكان تحقيق هذا الحلم، وربما يرجع هذا الى تفانيه في كتاباته.
مقومات الهوية
يشرح النديم من خلال «ثنائياته» بحب وبدقة ومهارة جراح الشخصية المصرية ومقومات هويتها وكأنه يؤرخ لها في كل زمان ومكان وفي اعداد مجلة «الأستاذ» يشترك النديم كبطل لثنائياته التي يبدأها ب «تحية بلدي» ويعلن بدعابة عن ابتعاده عن السياسة وتفرغه ل «تهذيب الأخلاق» ومن خلال حوار بين حبيب «شخصية خيالية» ونديم يعرض مشكلة إهمال اللغة الأم لحساب «الا اللافرانكة»
ويوبخ صديقه حبيب بقى لما تتكلم بلغة ضيوفك وكل من جه تاخذ لك من لغته كلمتين حتى تركب لغة من هنا ومن هنا ما بقيت غريب في الديار وضيعت مجدك وشرفك (الأستاذ 19) وبرغم مقاومة حبيب فإنه في النهاية يستسلم لقوة حجة نديم «أي والله يابو عبده أدى الكلام اللي يؤدب صحيح ويخلي الناس تعرف مقام بعضها» (21) وفي العدد الثاني يتناول حوار حبيب ونديم المأخذ على تنازل الشعب المصري عن زيه الشعبي ويوضح اسباب ارتداء أهل مصر للجبة والقفطان، ثم يتغير البطل المشارك للنديم من حبيب الى صالح الى المعلم حنفي ولطافت وظرافت وحنيفة ولطيفة ودميانة وزبيدة ونبوية، ويدعو من خلالهم الشعب المصري الى التطلف عند مخاطبة بعضه بعضاً، ويثنيهم عن رغبتهم في تقليد غيرهم من طبقات وجنسيات ويشرح لهم علاقة الأزياء بالانسلاخ عن الطباع، ويتألم لأننا «موتنا صنعة بلادنا» وأقبلنا على رداءة صناعة بلاد برة فيحلل خلال الثنائيات الأخلاق والعادات المصرية والاقتصاد الشرقي والعلاقة بين الخدم وساداتهم ومنافسة ورش ابناء البلد لورش الافرنج وآداب العلاقة بين الرجال والنساء وشكوى الزوجات من تقاعس أزواجهن عن تحمل المسؤولية وتحريض الفلاحين على المطالبة بحقوقهم وأصول تربية الأبناء ثم يتوقف لتطالبه الشخصيات - رجال ونساء - تعمل لنا مدرسة في جرنالك تعلم الأخلاق اللطيفة والآداب الجميلة ليعرض في ثنائياته «مدرسة البنات» ومدرسة «البنين» بين الدين والتمدن لكي يؤدي رسالته كنديم للشعب المصري لم يرد مثله في تاريخ مصر.